الوضع البشري يتعلق بالإنسان في مختلف أبعاده ومحدداته، أي انه ما يحدد الذات الإنسانية في مختلف أبعادها ومختلف مستويات وجودها.
فالإنسان كائن يعيش في مجتمع وزمن معين،
أي انه خاضع للزمن ( مما يجعل منه كائنا فانيا) وخاضع لضرورات اجتماعية
وحياتية لا دخل له فيها وهو في نفس الوقت الكائن القادر على التجاوز
والتعالي على هذه الحتميات والضرورات بفضل وعيه وفكره وقدرته على تطوير قدراته
الذهنية والجسدية مما يجعله الكائن الوحيد الحر وبفعل علاقته الاجتماعية
يعيش الإنسان مع الغير ولا يدرك ذاته إلا بفضل وجود هذا الغير .
وهو كائن يولد وينمو ويتطور
إلى أن يموت أي انه كائن تاريخي إلا جانب كونه كائن أو حيوان اجتماعي .
وهذا كله ما يجعل هذا الوضع إشكاليا مليء بالازدواجيات والتناقضات. فكيف
يكون هذا الكائن شخص واحد ( طفل يحبو ، ولد نزق ، مراهق مندفع، راشد متعقل،
شيخ خرف؟ فكيف تجتمع هذه الصفات في كائن ما ويبقى هو هو؟ وكيف يكون هو ( أنا) وليس أنا(الغير) ؟
كما انه يعيش في أوضاع تاريخية تحكمه
وتتحكم فيه :أي يولد عبدا أو سيدا أو فلاحا أو ملكا وهو في نفس الوقت الذي
يصنع ويحدد هذه الأوضاع التاريخية بنفسه؟ويخضع لضرورات وحتميات اجتماعية وبيولوجية وحياتية وهو أيضا شخص ومشروع يصنع ذاته ويختارها بنفسه ؟
هذا كله ما يجعل الوضع البشري موضوعا فلسفيا بامتياز خاضع لتساؤلات وإشكالات فلسفية متعددة ويحيل الى ابعاد ومفاهيم مختلفة:
1- الشخص:الوجود الذاتي : الوعي والقدرة على تمثل الذات وتملكها من خلال التفكير :
فكيف نذرك أنانا هل عبر الجسد أم النفس أم
الشعور؟ وهل تغير السمات الجسمية والأحوال النفسية والشعورية يغير من هوية
الشخص ومن تمثله لذاته كأنا؟ ما معنى الشخص وهل هو الضامن لوحدة الشخصية؟
وما الفرق بين الشخص والشخصية؟وهل الشخص هو الذي يحدد ذاته كمشروع ذاتي أم
أنه خاضع لحتميات وضرورات لا دخل له فيها؟
2- الغير الوجود التفاعلي: الغير يمنحني وعيا بوجودي كذات ويضفي عليه طابعا إنسانيا ، فالغير ذات تشبه الأنا وفي نفس الوقت مختلفة عنها ( الأنا الذي ليس أنا) ووجوده ضروري لوجودي ووعيي لذاتي :
فكيف يمكن إدراك الغير بوصفه وعيا( ذاتا
أو أنا) إذا كان الوعي لا يدرك إلا من الداخل؟( تجربة داخلية ) في حين أن
الغير شيء خارجي عني؟ كيف يتحدد وعيي من خلال الغير ؟ وهل يمكن أن أعي ذاتي
في غياب الغير؟ وبالتالي هل يمكن معرفة الغير؟ وما العلاقة التي تربطني
به؟
3- التاريخ : البعد الزمني للوجود الإنساني: الإنسان
نتاج للصيرورة الاجتماعية ومنتج لها، هذه الصيرورة التي تعكس صراع
الإرادات والمصالح فالإنسان مشروط بالزمن والمكان. كيف يمكن فهم وحدة
الصيرورة الجماعية في ظل تعارض المصالح والإرادات؟وكيف يمكن فهم تأثير
الماضي في الحاضر؟ هل تراكم التجارب البشرية تمكن من رسم وجهة محددة للصيرورة التاريخية ؟
المفهوم الأول :الشخص
التأطير الإشكالي للمفهوم:
الدلالات اللغوية والفلسفية:
في العربية : القاموس المحيط: شخص: بدن وضخم،والشخص الجسيم والسيد والمشاخص والمختلف والمتفاوت
في لسان
العرب :" الشخص سواد إنسان وغيره تراه من بعيد، والشخص كل جسم له ارتفاع
وظهور والمراد به إثبات الذات واستعير له لفظ الشخص. والشخيص العظيم الشخص ،
والسيد، شخص شخوصا أرتفع"
في اللاتينية personna القناع الذي يظهر به الممثل
في المعاجم الفرنسية للشخصية معنيين" معنى مجردا وعاما يجعله خاصية كل كائن يكون
أخلاقيا وقانونيا مسؤولا." ومعنى محسوسا "ما يمثله الشخص من أخلاقية سامية
يتميز بها عن الفرد البيولوجي ويشكل العنصر المنظم والثابت في سيرته وما
هو عليه عادة مما يميزه عن غيره ويشكل الجانب الأصيل من أناه."
ويميز كانط بين الشخص والشخصية "الشخص هو
الذات التي يمكن أن تنسب إليها مسؤولية أفعالها ، والشخصية الأخلاقية ليست
شيئا آخر غير حرية كائن عاقل في حدود القوانين الأخلاقية ، في حين أن الشخصية من وجهة السيكولوجية ليست إلا قدرة الشخص على الوعي بما هو ثابت في وجوده خلف كل الحالات المختلفة لهذا الوجود"
ويرى هيجل إن الشخصية لا تبدأ إلا حين تعي الذات نفسها كذات مجرة خالصة ،و أنها ذات تعي وجودها وحريتها وإرادتها ومسؤوليتها.
يلاحظ في هذا المفهوم
التركيز تارة على الظهور والمظهر الخارجي وتارة على كل ما هو داخلي وغير
ظاهر ، ومرة على ما هو متغير وأخرى على ما هو ثابت خلف المظاهر المتغيرة .
الإشكالات المطروحة :
إذن كيف تعي الذات أو الشخص ذاتها ، وكيف
ندرك انانا ؟هل من خلال الجسم والمظاهر الخارجية المتغيرة أم من خلال النفس
بوصفها جوهر باطني وثابت خلف كل المظاهر المتغيرة؟ وهل تغير وتحول السمات
الجسمية والنفسية والأحوال الشعورية يغير من هوية الشخص وإدراكه
لهويته؟وبالتالي ما الفرق بين الشخص والشخصية ؟ وهل الشخص ذات حرة ومشروع
يسطره بنفسه أم انه نتيجة لاكراهات وحتميات لا دخل له فيها ؟ ثم ما الذي
يمنح للشخص الإنساني قيمته المتميزة وهل يمكن الحديث عن الشخص لدى غير
الإنسان؟
لمحة تاريخية عن نشأة المفهوم:
تمت ملاحظة غياب مفهوم الشخص بشكل دقيق في الفكر اليوناني ( حديث أفلاطون عن النفس بوصفها جوهر أو مثال حقيقي للذات مستقلة
عن الجسم الذي ليس إلا سجنا وعقابا لها يجب إن تتحرر منها لتعود إلى
طبيعتها الأصلية لا يرقى إلى معالجة فلسفية للذات.) لذلك سنتعرض في البداية
إلى تصورين فلسفين لهذا المفهوم الأول في العصر الوسيط لدى ابن سينا والثاني في العصر الحديث لدى ديكارت الذي يشكل بحثه منطلقا للبحث الفلسفي عن الذات.
إبن سينا : الذات ( الشخص) هي النفس الثابتة وراء المظاهر الجسمية المتغير يقول ابن سينا " هل تغفل عن ذاتك، ولا تثبت نفسك؟ ... حتى النائم في نومه والسكران في سكره لا يعزب ذاته عن ذاته( لو
خلق الله الذات في هيأة غير مرئية ولا تتلامس اعضاؤها ... وجدتها قد غفلت
عن كل شيء إلا عن ثبوت أنيتها ... أترى المدرك منك مشاعرك ؟ أم عقلك وقوة
غير مشاعرك ...فإن كان عقلك .. ( هل تدرك بوسط أو دون وسط) فبقي أن تدرك
ذاتك من غير افتقار إلى قوة أخرى... ولا وسط ... أتحصل أن المدرك منك ، هو
ما يدرك البصر ...؟ لا فان انسلخت عنه وتبدل عليك ، كنت أنت أنت... وليس
مدركك عضو من أعضائك كقلب أو دماغ... (يخفى عليك وجودهما إلا بالتشريح ...
فمدركك ليس من عداد ما تدركه حسا بوجه من الوجوه ..."
يميز ابن سينا
بين جزء متغير في الذات والذي يشكل ما هو عضوي وجسمي وما هو محسوس ومتغير
وبين ما هو ثابت وراء كل هذا المظاهر المتغيرة والذي هو أساس الشعور بالذات
وهو النفس أو العقل
ديكارت: الذات هي الأنا أو الجوهر المفكر:
يرى ديكارت أن الأنا أو الذات هي الجوهر
المفكر( هذا الجوهر المفكر الذي هو أول يقين نلتقي به بعد الشك) وهذا
الجوهر تتمثل صفاته في التفكير والإرادة وهذه الذات متميزة عن صفاتها هذه
الصفات التي يمكن إرجاعها واختزالها في التفكير - حتى الصفات الجسمية منها- وهذه
الذات غير محتاجة إلى شيء مادي أو جسمي لكي توجد فهي مستقلة عنه تماما "
إذا ما توقفت لحظة عن التفكير توقفت عن الوجود"، وهذه الذات تبقى ماثلة
وواضحة بوصفها الحدس المباشر واليقين الأول. هكذا نستخلص أن الذات تتحدد
أساسا بالعقل الذي هو ملكة التمييز بين الخطأ والصواب.
إلا أن مفهوم الشخص لم يظهر بشكل واضح الآ مع هيجل وخاصة كانط.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق